بين غُروب دولة الأمويين و شروق دولة العبَّاسيين هناك في قرية البيضاء إحدى قرى شيراز ببلاد فارس وُلد شيخ النحاة عمرو بن عثمان ، ولمَّا كانت العراقُ بيتَ الخلافة و قبلة العلماء آنذاك يرحل إليها النَّاسُ لطلب الدنيا و الدين كان فيمن رحل إليها أسرة عمرو بن عثمان.
ولما وصلتِ الأسرةُ العراقَ اتخذت من (البصرة) موطناً جديداً، حيث هدوء الحال والابتعاد عن عواصف الفتن الموجودة في (الكوفة) وجوار السلطان في (بغداد).
ونشأ الفتى الفارسيُّ الصَّغيرُ في أحضان أُسْرته و ربوع وطنه الجديد، وكانت أمُّه الفارسية تدلِّل ولدَهَا الصغير باسم (سيبويه) وهو اسم فارسيٌّ عَرَفَ زُمَلَاؤُهُ الأَطْفَالُ فيما بعد أنه بمعنى (رائحة التُّفاح) باللغة العربية .
بِدَايَةُ طُلُبِ العِلْمِ
انطلق سيبويه بين أروقة العلم وحلقات المشايخ حامِلاً كُنَّاشَه ،يجلسُ إلى عُلَمَاءِ الحديث والفقه والشَّريعة في عصرٍ امتلأت فيه الأروقة بكبار العلماء وأنبل الطُّلاب، فأخذ بقراءة الحديث على العالم الكبير (حمَّادِ بنِ سلمةَ) ،وفي أحد المجالس وأثناء القراءة لحن سيبويه في قراءة بعض الأحاديث فردَّه شيخُهُ ، فقال سِيبَوَيْه «لاجَرَمَ لأطلبنَّ علماً لا تُلَحِّنِّي فيه أبدا» ،يقصِد أنَّه سيطلبُ علم النَّحو .
ومِن هنا انتقل سيبويهُ من دِرَاسة الحديثِ والفقه إلى دراسة اللغة ،والأدب ، فجالسَ ( الخليلَ بنَ أحمد الفراهيديَّ ) البصريَّ و لَزِمَهُ .
وكان الخليلُ بن أحمد كما يقول العلماء عنه من أذكياء التَّاريخ وعباقرة العلماء ،ولقد ابتكر علمَ العَرُوضِ للنَّاسِ ،وحفظ به الشِّعر من الانحراف ، وكان زاهداً وَرِعاً ،قالَ عنْهُ النَّضْرُ بن شُـمَيل : « أَكَلَتِ الدُّنيا بِعِلْمِ الـخَليلِ بنِ أحمد وَكُتُبِهِ، وَ هُوَ في خُصٍّ لا يَشْعُرُ به أَحَدٌ».
عَلَاقة المحبَّة بين الشَّيخ و التلميذ الجديد .
ولم تكن عَلَاقَة سِيبويه بشيخه الخليل مجرد قراءة و تدارس، بل كانت محبَّةً ومودَّةً ، فقد وَضَعَ الـخَلِيلُ تلميذه في درجةٍ خاصَّةٍ من بين أقرانه وزملائه ،يدخل عليه في أيِّ وقتٍ وَحينٍ حتَّى قال النَّضرُ بن شُميل وهو قرين سيبويه : «كان سيبويه يدخل على الخليل فيقول الخليلُ له: مرحباً بالزَّائر الذي لا يُـملُّ، وما سمعناه يقولها لغيره».
وكذلك كان سيبويه يحترم شيخه و يُجِلُّه إجلالاً عظيماً فكان –غالباً - لا يذكره باسمه في كتابه بل يقول «وسألته عن كذا» ، « وقال كذا» تعظيماً له و إجلالا.
شخصيِّة سيبويه وأخلاقه .
كان سيبويه شاباً جميلا أنيقاً لطيفاً مُـحْتَرماً بين النَّاسِ لا يُخاشِنُ أحداً و لا يُسيءُ الظَّنَّ بِهم ،وكان متواضِعاً قَالَ عنه تلميذه الأخفشُ وَوَارِثُ عِلْمِهِ : «كان سيبويه إذا كَتَبَ شَيْئاً في كتابِهِ عَرَضَهُ عَليَّ ،وَهو يرى أنني أعلمُ منه، وهو أعلَمُ منِّي» .
حُبُّ سيبويه لعلم العربيَّة
لقد قدَّم سيبويه للغة العربية ما لم يقدِّمه عالـمٌ آخر ،وذلك لأنَّه كان مُحبّاً لها ،ومن الحكايات التي وصلتنا عنه أنه كانت لديه زوجة ،ولكنَّه كان مشغولاً عنها بالدراسة والقراءة والتّأليف ،فغضبتْ لِنفسها جداً ،وانتظرتْ يوماً حتَّى خرج إلى حاجة فجمعت ما قد كتبه من أوراقٍ وأشعلتْ فيها النَّارَ، فلما جاء ورأى ذلك وقع مغشيّاً عليه، وعندما أفاق طلَّقها .
و مازال النَّاسُ إِلى يَومنا هذا يحترمون جُهدَهُ وَعَملَه و يقدِّرون خدمته للعربيَّة والعربِ ،ومن مظاهرِ ذلك الإجلالِ أنَّ النَّاسَ يقولون لمن أخطأ ،ولحن في العربية « أَسَاءَ إلى سِيبَويهِ وأَقَضَّ مَضْجَعَهُ فِي قَبْرِهِ»، ويقولون لمن نبغ في العربية و عمل على خدمتِها « فلانٌ سيبويه عَصْرِهِ ».
كتاب سيبويه
لقد خلَّف سيبويه للأُمَّة العربية إرثاً ثميناً ،وتراثاً عَظِيماً وهو كتابُه المشهور بين النُّحاةِ بِاسْمِ (الكتاب) ،وهو كما يقولون أجلُّ ما أُلِّف في النَّحو لأنَّ كُلَّ من أُلَّف في النَّحو من بعده عِيالٌ عليه ، وقد عَظَّمَه العلماءُ جداً ،يقول المازني اللغويُّ : « من أراد أن يعملَ كتاباً كبيراً في النَّحوِ بعد كتاب سيبويه فليستحِ».
وهذا (الجاحظُ) شيخُ أدباءِ زمانِه كان يحمله لـيـُهْـدِيه إلى الملوك و الأمراء ،وكان العلماءُ يسْألُ بعضهم بعضاً بعبارة مَشْهورة « هل ركبتَ البحرَ ؟ « يعني هل قرأت كتابَ سيبويه ؟.
وفاة سيبويه
لم تكن وفاة هذا العالم الجليل وفاة عاديَّة فلها قصَّة عجيبة - و الله أعلم بالحقائق - ففي عهد الخليفة (هارون الرشيد) قَدِم سيبويه شيخُ البصرة إلى بغداد في قصر أحد الوزراء حيث اجتمع نحاة الكوفة مع شيخهم (الكسائي) ينتظرون سيبويه لعقد مناظرة نحوية .
و مجملُ الكلامِ فيها أَنَّ الكَسائيَّ سأل سيبويه في مسألة نحوية عُرفت فيما بعدُ (بالمسألةِ الزنبوريِّة) ،لأن السؤالَ كان فيه كلمة (الزنبور) وهو حشرة لاسعة .
فقال : « قد كنتُ أظنُّ أنّ العقربَ أشدُّ لسعةً من الُّزنبُور ،فإذا هو هي ،أو فإذا هو إياها ؟ .»
فَأَجابَ سيبويهُ شيخُ البصريين ،وقال : (فإذا هو هي) فخطَّأه الكسائيُ ،ثمَّ احتكموا إلى بعض الأعراب الموجودين فقالوا (الصَّحيحُ هو قولُ الكسائي).
و لم يكن الأمرُ كذلك ، بل كان الحقُّ مع سيبويه ولكنهم قالوا ذلك لمكانة الكسائي عند الوزراء.
يؤمِّل دُنْيَا لِتبقَى لَهُ
فَـمَاتَ المؤُمِّل قَبْلَ الأَمَلِ
حَثِيثاً يُروِّي أُصُولَ الفَسِيلِ
فَعَاشَ الفَسَيلُ وَمَاتَ الرَّجُلُ
والحاصلُ أنَّ سِيبويه خرجَ من المناظرة متَحسِّراً على ماحدث فيها و قرر ترك العراق و الرجوع إلى مسقط رأسه قرية (البيضاء) ،و في طريقه مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً فَـمَاتَ هَـمَّا وَ حُـزْناً على عِلمه وقال قبل موته بيتين قيل أنَّهما كُتبا على قبره.
وهكذا أُسدل السِّتار على حياة واحدٍ من الشخصيَّات الرَّائدة في تراثنا العربي والإسلامي، وقد خلَّف سيبويه إرثاً يكفي الأمَّة وعمره بعدُ لم يتجاوز الثَّانيةَ والثَّلاثين من عمره.
المصدر : كتاب اللسان العربي
إرسال تعليق