المفهوم العام للتقديس .
ﺍﻟﺘﻘﺪﻳﺲ: ﻫﻮ ﺍﻟﺘﻌﻈﻴﻢ، ﻭﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻋﺮﻓﺎً : ﻓﻴﻤﺎ ﺟﺎﻭﺯ ﺍﻟﺤﺪ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ .
ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﻭﻛﻤﺎﻟﻪ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ ﻻ ﺷﺮﻳﻚ ﻟﻪ، ﻟﻤﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺕ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﻧﻌﻮﺕ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ، ﻓﺄﺳﻤﺎﺅﻩ ﺣﺴﻨﻰ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ : ﻭَﻟِﻠّﻪِ ﺍﻷَﺳْﻤَﺎﺀُ ﺍﻟْﺤُﺴْﻨَﻰ [ ﺍﻷﻋﺮﺍﻑ : 180 ] ﻭﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻛﻠﻬﺎ ﺣﻜﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻭﺻﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻘﺎﻝ : ﻓَﻌَّﺎﻝٌ ﻟِّﻤَﺎ ﻳُﺮِﻳﺪُ [ ﺍﻟﺒﺮﻭﺝ : 16 ] ﻭﺷﺮﻋﻪ ﻛﻠﻪ ﻋﺪﻝ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺟﻞ ﺷﺄﻧﻪ : ﻭَﻣَﻦْ ﺃَﺣْﺴَﻦُ ﻣِﻦَ ﺍﻟﻠّﻪِ ﺣُﻜْﻤًﺎ ﻟِّﻘَﻮْﻡٍ ﻳُﻮﻗِﻨُﻮﻥَ [ ﺍﻟﻤﺎﺋﺪﺓ : 50 ] ﻭﻧﻌﻤﻪ ﺳﺎﺑﻐﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﺒﺎﺩﻩ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ : ﻭَﺇِﻥ ﺗَﻌُﺪُّﻭﺍْ ﻧِﻌْﻤَﺖَ ﺍﻟﻠّﻪِ ﻻَ ﺗُﺤْﺼُﻮﻫَﺎ [ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ : 34 ] ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻤﺴﺘﺤﻖ ﻭﺣﺪﻩ ﻷﻋﻈﻢ ﺍﻟﺘﻘﺪﻳﺲ ﻭﺗﻤﺎﻣﻪ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻟﺬﺍﺗﻪ، ﻭﺃﻣﺎ ﻏﻴﺮﻩ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﺮﻋﻬﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﺘﻌﻈﻴﻤﻪ . ﻭﻛﻞ ﺗﻌﻈﻴﻢ ﺧﺮﺝ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﺗﻌﻈﻴﻢ ﻣﺤﺮﻡ ﻻ ﻳﺄﺫﻥ ﺑﻪ ﺍﻟﻠﻪ.
التحذير من الغلو في الأشخاص
الغلو في الأشخاص سبب عظيم من أسباب الانحرافات المؤدية إلى الشرك في الألوهية و الربوبية ، ومن هذا الطريق انزلقت أقوام كثيرة من لدن نوح عليه السلام الذين اتخذوا من صور الصالحين آلهة من دون الله إلى يومنا هذا مرورا باليهود الذين عبدوا عزيرا ، و النصارى الذين عبدوا المسيح عليه السلام من دون الله ، و الصوفية الذين عبدوا القبور ، و الشيعة الذين عبدوا عليا وغلوا في أئمتهم فوصموهم بالعصمة ومعرفة الغيب .
وقد جاء ذكر الغلو في القرآن على سبيل الذم و النهي و التقبيح وكذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا غليظا مخوفا من تبعاته .
الغلو في القرآن.
قال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا) (النساء 171)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ " أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله ، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله ، و الخطاب و إن كان لأهل الكتاب ،فإنه عام أيضا يتناول جميع الأمة تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم – صلى الله عليه و سلم – فعل النصارى في عيسى عليه السلام ، واليهود في العزير .
وكذلك قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)الكهف110
وقوله تعالى ( قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ )الانعام 50
الغلو في السنة النبوية
ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في النهي عن الغلو وكذلك الآثار الواردة عن السلف في التحذير من الغلو في الأتباع و العلماء و الصالحين ، ومن ذلك :
قوله صلى الله عليه وسلم ( إياكم و الغلو فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلو)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تطروني كما أطرت النَّصارى ابن مريم ، ولكن قولو ا عبد الله ورسوله)
وكذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)
وكذلك ما روي عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ ، قَالَ : أَتَيْنَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لِنَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ ، فَلَمَّا قَامَ قُمْنَا نَمْشِي مَعَهُ ، فَلَحِقَهُ عُمَرُ فَرَفَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ الدِّرَّةَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اعْلَمْ مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ : إِنَّمَا تَرَى فِتْنَةً لِلْمَتْبُوعِ مَذَلَّةً لِلتَّابِعِ
وكذلك جاء عَنْ عَاصِمٍ ، قَالَ : كَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ قَامَ.
التطور في الغلو و ادعاء عصمة الأئمة و وعلم الغيب
لم يقتصر الغلو في الصالحين و أئمة المسلمين على مجرد التَّعصب و المبالغة في التبعية ، بل تعدى الحد إلى تلبيس إبليس على المتَّبعين بأنَّ أئمتهم معصومون من الخطأ ، بل وصل إلى ادعائهم أنهم يعلمون الغيب .
ولنأخذ على ذلك مثالين واضحين وهما ( الشيعة و الصوفية ) ثم نبين ذلك في الإسلام.
أولا : ادعاء الشيعة لأئمتهم العصمة وعلم الغيب.
قال الخلال: "إن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا تصلح الإمامة إلا لـرجل مـن آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا لرجل من ولد علي بن أبي طالب".
فها هو المجلسي (ت 1111 هـ) - أحد علمائهم - يصرح بذلك ويقول "اعلم أنّ الإماميّة اتّفقوا على عصمة الأئمّة عليهم السّلام من الذّنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلاً، لا عمداً ولا نسياناً، ولا لخطأ في التّأويل، ولا للإسهاء من الله سبحانه"
وشطُّوا بتعريف العصمة تعريفا ليس من اللغة أو الشريعة في شيء فقالو بأن العصمة :قوة في العقل تمنع صاحبها من مخالفة التكليف مع قدرته على مخالفته.
وكذلك ما ورد عن التستري – أحد علمائهم - يقول: الإمام قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم وله الولاية العامة في الدين والدنيا وساد مسده، فكما أنه شرط في النبي اتفاقاً فكذا في الإمام إلزاماً.
بل ويعد كافرًا من نفى العصمة عن الأئمة، قال ابن بابويه القمي: "من نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهَّلهم ومن جهلهم فهو كافر.
وكل ما أفتى به الإمام عندهم فهو من قبيل الوحي عن النبي، قال شيخ الاسلام - رحمه الله - و كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم .
بل وزاد الأمر فتطرفوا - عياذا - بالله فقالوا : إن كل واحد من هؤلاء-أي: الأئمة- قد بلغ الغاية في الكمال، وهم أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وعثمان، بل أحدهم يثبت حتى الوحي لأئمة الشيعة، وعند غلاتهم ، أنهم أفضل من الأنبياء ويجعلون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء ، وأن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه والعياذ بالله.
ثانيا: العصمة وادعاء الغيب عند الصوفية .
وليست الصوفية بأخف وطأة من الشيعة الإمامية المنحرفة ، بل كانت البدعة ذاتها منتشرة في الفكر الصوفي ، يقول محي الدين بن عربي: " جميع ما أكتبه في تصانيفي ليس هو عن فكر ولا روية وإنما هو عن نفث في روعي من ملك الإلهام و ليس عندي - بحمد الله - تقليد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلومنا كلها محفوظة من الخطأ ".
وقال – أيضا – " نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحتمله الألفاظ".
وقال أيضا جميع ما كتبته وأكتبه إنما هو عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني كل ذلك لي بحكم الإرث لا بحكم الاستقلال فإن النفث في الروع منحط عن رتبة وحي الكلام ووحي الإشارة والعبارة ، ففرِّق يا أخي بين وحي الكلام ووحي الإلهام تكن من العلماء الأعلام.
بل نقل الشعراني– أحد غلاة المتصوفة - في كتابه (الطبقات الكبرى) عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة.. وزعم أحمد بن المبارك أن شيخه الأمي عبد العزيز الدباغ يعلم اللوح المحفوظ ويعلم كتابته وأنه بالسريانية.
وكذلك يقول عبد الوهاب الشعراني:" كذلك وقع لفقيرة من تلامذتنا أنها رأت في المنام أن الحق تعالى أعطاها ورقة فانطبقت كفها حين استيقظت فلم يقدر أحد على فتحها فألهمني الله تعالى أني قلت لها إنوِ بقلبك أنه إذا فتح الله كفك أن تبتلعيها فنوت وقربت يدها إلى فمها فدخلت الورقة في فيها قهراً عليها فقال الولي بم عرفت ذلك فقلت ألهمت أن الله تعالى لم يرد منها أن يطَّلع أحد عليها وقد أطلعني الله تعالى على الفرق بين كتابة الله تعالى في اللوح المحفوظ وغيره وبين كتابة المخلوقين وهو علم عجيب رأيناه وشاهدناه.
و قال إبراهيم الدسوقيُّ الصوفيُّ - في مَعْرِض ذكر خصائص العارف بالله عند الصوفية- ما نصُّه: "وكذلك لهم اطِّلاعٌ على ما هو مكتوبٌ على أوراق الشجر والماء والهواء، وما في البرِّ والبحر، وما هو مكتوبٌ على صفحةِ قبَّةِ خيمة السماء، وما في حياة الإنس والجانِّ ممَّا يقع لهم في الدنيا والآخرة، فلا يُحجب مِن حكيمٍ يتلقَّى علمًا مِن حكيمٍ عليمٍ"
وغير هذه الخرافات و الانحرافات كثير و الله المستعان و العاصم من الزيغ و الزلل.
العصمة و الغيب في الإسلام (الضوابط السليمة)
و أما عن العصمة في القرآن والسنة و الإجماع فقد دلوا على أنها لا تكون مطلقة ء إلا للأنبياء دون غيرهم ، الإجماع على عصمة الأنبياء؛ دالُّ على عدم عصمة من سواهم من المخلوقين، ويبطل قول البعض بعدم عصمة الأنبياء في حين يدعي عصمة الأئمة. وحكى الإجماع عدد كبير من الأئمة و الحفاظ.
قال شيخ الاسلام رحمه الله "إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136] .
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 137].
وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177] .
وقال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285] .
بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عُصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله؛ ولهذا من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء ومن سب غيرهم لم يقتل.
وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن "النبي" هو المنبئ عن الله و"الرسول" هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين".
ومن الأدلة على عدم عصمة أحد دون الأنبياء قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]
و وجه الدلالة: كما قال شيخ الإسلام فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه؛ فدل القرآن أن لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾[النساء: 69].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ [الجن: 23]
ومن السنة ما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»
و وجه الدلالة: ألا معصوم عن الخطأ خلا الأنبياء.
قال الصنعاني: "والحديث دال على أنه لا يخلو من الخطيئة إنسان لما جبل عليه هذا النوع من الضعف وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه وترك ما عنه نهاه"
ومما ورد عن الصحابة العدول رضي الله عنهم في مثل هذا التقرير ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي أمر المسلمين: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»
وكذلك ما ما ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ مُعَاذٍ، لَوْلاَ مُعَاذٌ هَلَكَ عُمَرُ"
فانظر إلى عمر، ثاني أفضل رجل بعد النبي صلى الله عليه وسلم و الذي شهد النبي له بالجنَّة ، كيف يقرُّ بفضل معاذ رضي الله عنهما ، وعمر رضي الله عنه إذ يرفع العصمة عن نفسه ، فإنه لم يثبتها لمعاذ بل أراد أن معاذا رضي الله عنه كان يتخوَّله بالموعظة و النَّصيحة و لذلك ورد في الآثار و كتب السير مواقف بين هذين الجبلين ما تزرف له الدموع وترق له القلوب وما يدل على صدق الحب و التناصح بينهما .
وأما عن الغيب في الإسلام فإنَّ الله تعالى قد استأثر به وحده ولم يمنح أحدا من خلقه شيئا من ذلك ، وأوجب على خلقه الإيمان به قال تعالى : (الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ) [البقرة: ١-٣]
والأدلة على استأثاره – سبحانه وتعالى – بالغيب كثيرة من القرآن و السنة .
فمن القرآن.
قوله تعالى :﴿وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود: ١٢٣].
وقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩]
قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٧٩].
ومن السنة :
ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه النهيُ عن إتيان الكهَّان والعرَّافين ومَن شابههم وعن تصديقهم مما يدل على نفي علم الغيب عن المخلوقين جملة في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»
وكذلك ما جاء عن بعض أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
بعض الأمور التي ليست من ادعاء الغيب.
وجديرٌ بالملاحظة والتنبيهِ أنَّ بعض المعارف ليست مِن علم الغيب ولا تدخل في أحواله، ويمكن إظهارُها على الوجه التالي:
أوَّلاً: الإلهام (أو التحديث):
وهو أن يُلقيَ اللهُ في قلب المؤمن أمرًا فيخبرَ به حَدْسًا وفراسةً، ويدفعه إلى الفعل أو الترك
فقد يفتح الله تعالى على المؤمن الصادق في إيمانه واستقامته ومتابعةِ سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن إلهاماتٍ صحيحةٍ وفراساتٍ صائبةٍ وأحوالٍ صادقةٍ ما يكون الحكمُ على وَفْقه في قلبه أقوى مِن كثيرٍ من الأقيسة أو الظواهر والاستصحابات الضعيفة التي خاض فيها أهلُ المذاهب والخلاف.
وليس هذا مِن علم الغيب في شيءٍ، وإنما هو علمٌ يلقيه الله في قلب المؤمن يطمئنُّ له الصدرُ ويدعو إلى العمل مِن غير استدلالٍ ولا نظرٍ، ويدلُّ على حقيقته قولُه تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧-٨].
وقولُه تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
وقولُه تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ٦٦-٦٨].
قال أبو عثمان النيسابوريُّ -رحمه الله-: «من أمَّر السنَّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأنَّ الله تعالى يقول في كلامه القديم: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤].
وكذلك في سياق ذكرِ صفةِ المسيح الدجَّال الأعور وما كُتب بين عينيه: «كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ»
فقد بيَّن ابن تيمية -رحمه الله- انكشافَ حالِ هذا الدجَّال للمؤمن الصادق، وأنَّ القلب إن كان عامرًا بالتقوى انجَلَتْ له الأمورُ وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المظلم حيث قال -رحمه الله-: «فدلَّ على أنَّ المؤمن يتبيَّن له ما لا يتبيَّن لغيره ولا سيَّما في الفتن، وينكشف له حالُ الكذَّاب الوضَّاع على الله ورسوله، فإنَّ الدجَّال أكذبُ خَلْقِ الله مع أنَّ الله يُجري على يديه أمورًا هائلةً ومخاريقَ مزلزِلةً، حتَّى إنَّ من رآه افتُتن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذِبَها وبطلانها، وكلَّما قَوِيَ الإيمانُ في القلب قَوِيَ انكشافُ الأمور له وعرف حقائقَها مِن بواطلها، وكلَّما ضَعُفَ الإيمان ضَعُفَ الكشفُ، وذلك مَثَلُ السراج القويِّ والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] ، قال: «هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابِقة للحقِّ وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نورٍ»، فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نورَ القرآن، فالإلهام القلبيُّ تارةً يكون مِن جنس القول والعلم، والظنِّ أنَّ هذا القول كذبٌ وأنَّ هذا العمل باطلٌ، وهذا أرجحُ مِن هذا أو هذا أصوب»
غير أنَّ هذا الإلهام يُعَدُّ أمرًا خاصًّا لا يتعدَّى الملهَمَ وليس بحجَّةٍ على غيره، ولا يثبت به حكمٌ شرعيٌّ، ولا يجوز إلزامُ غيرِه به لانتفاء القدرة على إقامة الدليل على صحَّة إلهامه، وقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ»
قال المعلِّميُّ -رحمه الله-: «وهذه سيرة عمر بين أيدينا، لم يُعرف عنه ولا عن أحدٍ من أئمَّة الصحابة وعلمائهم استدلالٌ بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفى عليهم الحكمُ فيَسألون عنه، فيخبرهم إنسانٌ بخبرٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القولَ فيخبرهم إنسانٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخلافه فيرجعون إليه»
ويقرِّر ذلك ابنُ حجرٍ -رحمه الله- بقوله: «لا يُلتفت إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ إذا وافق الكتابَ والسنَّةَ، والعصمةُ إنما هي للأنبياء، ومَن عداهم فقد يخطئ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأسَ الملهَمين، ومع ذلك فكان ربَّما رأى الرأيَ فيُخبره بعضُ الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيَه، فمَن ظنَّ أنه يكتفي بما يقع في خاطره عمَّا جاء به الرسولُ عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظمَ الخطأ، وأمَّا مَن بالغ منهم فقال: «حدَّثني قلبي عن ربِّي» فإنه أشدُّ خطأً، فإنه لا يأمن أن يكون قلبُه إنما حدَّثه عن الشيطان، واللهُ المستعان»
وتقريرًا لهذا المعنى – أيضا - يقول ابنُ القيِّم -رحمه الله- في مَعْرِض بيان حكمة الله تعالى مِن إرسال الرسل إلى الأمم: «..فلمَّا انتهت النبوَّةُ إلى محمَّدِ بنِ عبد الله رسولِ الله ونبيِّه أرسله إلى أكمل الأمم عقولًا ومعارفَ وأصحِّها أذهانًا وأغزرِها علومًا، وبَعَثَه بأكمل شريعةٍ ظهرت في الأرض منذ قامت الدنيا إلى حين مبعثه، فأغنى اللهُ الأمَّةَ بكمال رسولها وكمال شريعته، وكمالِ عقولها وصحَّةِ أذهانها عن رسولٍ يأتي بعده، أقام له مِن أمَّته ورثةً يحفظون شريعتَه، ووكَّلهم بها حتَّى يؤدُّوها إلى نُظَرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، فلم يحتاجوا معه إلى رسولٍ آخَرَ ولا نبيٍّ ولا محدَّثٍ، ولهذا قال: "إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ"
فجزم بوجود المحدَّثين في الأمم، وعلَّق وجودَه في أمَّته بحرف الشرط، وليس هذا بنقصانٍ في الأمَّة على مَن قبلهم، بل هذا مِن كمال أمَّته على مَن قبلها، فإنها -لكمالها وكمالِ نبيِّها وكمال شريعته- لا تحتاج إلى محدَّثٍ، بل إن وُجد فهو صالحٌ للمتابعة والاستشهاد لا أنه عمدةٌ، لأنها في غُنْيةٍ بما بعث اللهُ به نبيَّها عن كلِّ منامٍ أو مكاشفةٍ أو إلهامٍ أو تحديثٍ، وأمَّا مَن قبلها فللحاجة إلى ذلك جُعل فيهم المحدَّثون»
ذلك لأنَّ الحقَّ الذي لا يشوبه باطلٌ هو: الكتابُ والسنَّة وإجماعُ الأمَّة، وبإزاء ذلك الإلهاماتُ والمنامات والإسرائيليات والحكايات ونحوُ ذلك، ففيها الحقُّ والباطل، وللتمييز بينهما يجب عرضُها على الشرع، فما زكَّاه قُبِل، وإلاَّ رُدَّ على صاحبه مهما كان القائل به
ثانيًا: الكرامة:
وهي أمرٌ خارقٌ للعادة يُجريه اللهُ تعالى على يد عبده الصالح ليكرمه، فيحقِّق له نفعًا أو يدفع عنه ضرًّا أو ينصر به حقًّا، والتصديق بكرامات الصالحين مِن أصول السنَّة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ومِن أصول أهل السنَّة والجماعة: التصديقُ بكرامات الأولياء وما يُجري اللهُ على أيديهم مِن خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمَّة مِن الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمَّة، وهي موجودةٌ فيها إلى يوم القيامة»
هذا، وليس في الكرامة اطِّلاعٌ على الغيب، وإنما «هذه الأحوال مواهبُ مِن الله تعالى، وكراماتٌ للصالحين مِن هذه الأمَّة، لا صُنْعَ لهم فيها ولا قدرة لهم عليها، ولا يسمَّى هذا سحرًا في الشرع»
فليس فيها ادِّعاءُ علمِ الغيب ولا الاطِّلاع عليه، وإنما يحصل مِن قبيل التلويح لا الكشف الظاهر الذي اختصَّ اللهُ به رُسُلَه كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦-٢٧]، لذلك فالنبيُّ يقطع بما يدَّعيه مِن معجزةٍ وهو مأمورٌ بإظهارها، بخلاف الوليِّ فلا يقطع بالكرامة، إذ لا يأمن على نفسه الاستدراجَ، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «قال الطيبيُّ: .. فلا يُظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلاَّ لرسولٍ يوحَى إليه مع مَلَكٍ وحَفَظةٍ، ولذلك قال: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: ٢٧]، وتعليلُه بقوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجن: ٢٨]، وأمَّا الكرامات فهي مِن قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء»
ثالثًا: الرؤيا الصالحة:
وحقيقة الرؤيا أنها أمثلةٌ جعلها الله دليلاً على المعاني كما جُعلت الألفاظُ دليلاً على المعاني، فيستدلُّ الرائي بما ضُرِب له مِن المثل على نظيره، ويَعْبُر منه إلى شبهه، ولهذا سُمِّي تأويلُها تعبيرًا.
فقد يرى الرجلُ الصالح في النوم ما يؤنسه أو يزعجه، الأمر الذي يدفعه إلى الإقبال على فعل المطلوب مِن الطاعات وترك المحظور، لذلك فالرؤيا الصالحة ليست ضربًا مِن علم الغيب، وإنما فائدتها تكمن في التنبيه والبشارة والنذارة، وقد صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ المُبَشِّرَاتُ»، قَالُوا: «وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟»، قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»
علمًا أنَّ الرؤيا كالإلهام، منها الرحمانيُّ والشيطانيُّ والنفسانيُّ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَالرُّؤْيَا ثَلاَثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ»
وهذه الحالات الثلاثُ يُشْكِل التمييزُ بينها، والغالب أنَّ الرُّؤى تكون على خلاف الظاهر فتحتاج إلى تعبيرٍ، ومع وجود الاحتمال فيها فلا عصمة إذن، بخلاف رؤيا الأنبياء فتعبيرُهم صادقٌ بالنظر إلى عصمتهم وتأييدهم بالوحي.
وعليه، فليست الرؤيا الصالحة حجَّةً شرعيةً ولا مصدرًا مِن مصادر المعرفة ولا ضربًا مِن علم الغيب، لذلك يَلْزَم عرضُها -كالإلهام- على الشرع ليُعْلَم صدقُها، فإن صدَّقها الشرعُ كان الحكم للشرع، وتبقى فائدتها للبشارة والنذارة والتنبيه والاستئناس اتِّفاقًا، قال المعلِّميُّ -رحمه الله-: «اتَّفق أهل العلم على أنَّ الرؤيا لا تصلح للحجَّة، وإنما هي تبشيرٌ وتنبيهٌ، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجَّةً شرعيةً صحيحةً»()
رابعًا: الفراسة: ولها معنيان:
أحدهما: معرفة أحوال الناس والتمييزُ بها بين الصادق والكاذب والمحقِّ والمبطِل بإصابة الظنِّ أو الحَدْس، وتحصل هذه المعرفة نتيجةَ موهبةٍ ربَّانيةٍ أودعها اللهُ في القلب، وهي أشْبَهُ بالموهبة الإلهامية.
والثاني: معرفة أحوال الناس بما يكتسبه عن طريق تعلُّم الدلائل وتحصيلِ القرائن والانتفاعِ بالتجارب
والفرق بين الإلهام والنوع الثاني مِن الفراسة: أنَّ الفراسة تتعلَّق بنوعِ كسبٍ وتحصيلٍ كتعلُّم الدلائل والتجارب والقرائن، فإذا تنبَّه إليها المتفرِّسُ عرف حالَ الناس كما يُحكى عن الشافعيِّ وغيره، بينما الإلهام موهبةٌ مجرَّدةٌ لا كَسْبَ فيها ولا تحصيلَ
وعليه، فعمدة الفراسة الحَدْسُ والظنُّ أو التركيز على القرائن والدلائلِ التي تفطَّن لها المتفرِّس، ومِن ثَمَّ ليست ضربًا مِن الغيب، إذ بإمكان المتفرِّس أن يشرح لغيره تلك القرائنَ والدلائل التي تنبَّه لها، فإن كانت حقًّا أو صدقًا عُمِل بتلك القرائنِ والدلائل لا بالفراسة.
وممَّا تقدَّم يظهر أنَّ الإلهاماتِ والمناماتِ والفراساتِ ونحوَها خارجةٌ عن علم الغيب، إذ لا تقع استنادًا على علمٍ محقَّقٍ، وإنما هي مبنيَّةٌ على الآراء أو الظنون، وقد أفصح الشاطبيُّ -رحمه الله- عن أنَّ ما لاح للأولياء فهو سانحٌ مظنونٌ بقوله: «فإذا لاح لأحدٍ مِن أولياء الله شيءٌ مِن أحوال الغيب فلا يكون على علمٍ منها محقَّقٍ لا شكَّ فيه، بل على الحال التي يقال فيها: «أرى» و«أظنُّ»، فإذا وقع مطابِقًا في الوجود وفُرض تحقُّقُه بجهة المطابَقة أوَّلاً والاطِّراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكمٌ، لأنه قد صار مِن باب الحكم على الواقع»
أمور أخرى:
وممَّا يدخل -أيضًا- في هذا المعنى ممَّا هو سانحٌ مظنونٌ أو شكٌّ غيرُ محقَّقٍ حتى يقع ما يأتي:
توقُّعات نوع الجنين: التي قد ترتبط المعرفةُ بنوعه باتِّخاذ أسبابٍ تجري العادةُ على وَفْقِها بلا حتمٍ، أو يكون مُدْرَكًا بشيءٍ محسوسٍ كوسيلة الأشعَّة ونحوها مِن الوسائل الحديثة، فخرج بها الأمرُ مِن عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة مع بقائه مظنونًا غيرَ محقَّقٍ.
علمًا أنَّ معرفة كونِ الجنين ذكرًا أو أنثى المظنونةَ لا تمثِّل إلاَّ جزءًا يسيرًا ممَّا في الأرحام، وعلمُ الغيب بما في الأرحام لا ينحصر بذلك الجزء، بل علمُه –سبحانه- واسعٌ ومحيطٌ بكلِّ ما كان مِن خواصِّ الجنين وصِفَاته، وما يجري في الرحم مِن عملية التحوُّل والتطوُّر ممَّا تنقصه الأرحامُ وما تزداد مِن حجمٍ ومدَّةٍ وعددٍ ودمٍ، وما يصوِّر اللهُ الحملَ كاملاً أو ناقصًا، شقيًّا أو سعيدًا، ويؤكِّد هذا المعنى ابنُ أبي جمرة -رحمه الله- فيما نقله عنه ابن حجرٍ -رحمه الله- عند قوله: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ﴾ [الرعد: ٨]، قال: «إشارةٌ إلى ما يزيد في النفس وينقص، وخصَّ الرحِمَ بالذكر لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرف أحدٌ حقيقتَها، فغيرُها بطريق الأَوْلى»
توقُّعات الأحوال الجويَّة: القائمة -في العصر الحاضر- على مقدِّماتٍ مِن مراصد الأحوال الجويَّة ضمن دراسةٍ معيَّنةٍ، وبواسطة آلاتٍ خاصَّةٍ تُعْرَف بها أحوالُ الجوِّ مِن كُتَلٍ هوائيةٍ مختلفةٍ وحركةُ الرياح وسرعتُها، ونسبةُ وكثافةُ السحب المنتشرة المأخوذة بواسطة الأقمار الاصطناعية ونحو ذلك، فهذه التوقُّعات قد تصيب وقد تخطئ، فليست مِن علم الغيب ولا مِن جنس أخبار المنجِّمين، وقد كانت هذه المعارف قديمًا تُنيط الحكمَ بحسب العادة والتجربة، ذلك لأنَّ اللهَ تعالى جعل لبعض المغيَّباتِ علاماتٍ تدلُّ عليها وَفْق سننه الكونية: كالاستدلال على مجيء المطر بنوعٍ من الرياح كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٥٧]، وفي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الروم: ٤٦]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «يذكر تعالى نِعَمَه على خَلْقه في إرسال الرياح مبشِّراتٍ بين يدَيْ رحمته بمجيء الغيث عَقِبَها»
وقال القرطبيُّ -رحمه الله-: «أي: الرياح تبشِّر بالمطر»
وممَّا يؤيِّد هذا المعنى -أيضًا- قولُ ابن أبي جمرة -رحمه الله- فيما نقله ابنُ حجرٍ -رحمه الله- عنه بما نصُّه: «وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ» إشارةٌ إلى أمور العالَم العلويِّ، وخصَّ المطرَ مع أنَّ له أسبابًا قد تدلُّ بجري العادة على وقوعه، لكنَّه مِن غير تحقيق»
وقال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلاَّ الله، ولكن إذا أمر به عَلِمَتْه الملائكةُ الموكَّلون بذلك ومَن شاء الله مِن خَلْقِه»
تنبيه
وعلى كل حال فنصيحتي لاخواني من طلاب العلم المباركين أن يحذروا من الغلو في مشايخهم وعلمائهم وهذا لا يمنع من تقديرهم و احترامهم وعدم الانتقاص منهم ، فإنَّ الغلو – كما رأيتم - مزلة أقدام قد يعدو الشيطان بالعبد في هذه المهلكة إلى أن يخرجه من الدين كما يخرج السهم عن قوسه.
واقرأ هذه النَّص العجيب لتعرف مدى حذر الائمة الكبار من هذه اللوثة الخطيرة ، ذكر الإمامُ الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فيقول: "وله جلالةٌ في النفوس، ومهابةٌ في القلوب - عن ابن أبي حاتم، حدثني أبو بكر محمد بن عباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل – قال::
يوم مات أحمدُ بن حنبل وقع المأتم والنَّوح في أربعة أصناف: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس، وأسلم يوم مات عشرون ألفًا! وفي رواية: عشرةُ آلاف من اليهود والنصارى والمجوس
وهذه منقَبةٌ عظيمةٌ يفرح بمثلها الحنابلة - والذهبي معدودٌ من كبارهم - ولكن منطق العلم مقدَّمٌ على منطق الهوى، ولا يُكذَب على الإمام بمثل هذا، وقد أغناه الله عنه بما هو خيرٌ منه، مما هو مبثوثٌ وثابتٌ في سيرته العظيمة.!
فقال الذهبي معقبا : هذه حكاية منكرة (أي قصة إسلام عشرين ألفا من اليهود والنصارى في يوم وفاة الإمام أحمد)، تفرد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، ولا يُعرف، ثم العادة والعقل تُحيل وقوع مثل هذا: وهو إسلام ألوف من الناس لموت ولي الله، ولا ينقل ذلك إلا مجهول لا يعرف، فلو وقع ذلك لاشتهر، ولتواتر لتوفر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته مائة نفس لقضى من ذلك العجب، فما ظنك؟!
إرسال تعليق