في مدينة البصرة بالعراق محضن العلم والعُلماء ولد (عمرو بن بحر الكنِاَنِي) ،ذلك الغلامُ الأسمر الذي لم يكن له حظٌ من الوسامة ،فهو قصير القامة ،وجاحظ العينين يُشبه الزنوج ولذلك اختلفوا في أصله هل هو من أصلٍ عربيِّ كما قال عن نفسه،أم أنَّه من الموالي الزنوج الذين رحلوا إلى بلاد العرب قبل الإسلام ؟
عرفه النَّاسُ بلقبِ (الجاحظ) لجحوظ عينيهِ وبروزها ،ومع ذلك فكان الجاحظ بحراً في المِزاح و خفة الرُّوح .
فقره وطلبه للعلم
مات أبو الجاحظ و هو في سنِّ مبكرة ، وتركه لأُمِّه التي دفعته إلى السوق يبيع السَّمك و الخبز ،فكان الجاحظ يعمل نهاراً و يبيت في حوانيت الكُتُبِ و الأوراق يقرأ فيها ليلاً .
مع هذا الفَقْرِ الشَّدِيدِ لم يترك الجاحظُ طلب العلم ولكنَّه جالس العلماء في أروقة المساجد ، فقرأ القُرْآن ،و دَرَسَ النَّحْوَ على شيخه الأخْفش تلميذِ سيبويهِ ،وطاف على العديد من الشيوخِ وكُتَّـابِ عصره الذهبي الذي جمع نجوم العلماء كالخليل بن أحمد و سيبويه و ابن المقفع والأصمعي ،وأئمة الفقه كمالك والشَّافعي وأحمد وغيرهم الكثير.
وكان فيما رُوي عنه أنَّه لما انصرف إلى طلب العلوم و التَّأليف حتى ضاقت به أمُّه وكانت تُقدِّمُ له الأطباقَ فيها الأوراقُ و الكَراريسُ بدلاً من الطَّعَامِ سُـخْرِيةً مما يقوم به وانصرافه عن الدنيا إلى العلم .
انتقَالُه إلى بغداد
لم يكن الجاحظُ رجلاً عادياً في سعة اطلاعه وقراءته فقد أَلَمَّ بالثقافة العربية والفَارِسِيَّة والـهندية واليونانية وذلك لِكَثْرَةِ اطِّلاعه على المُترجمات من كُتُبِ تلك الأمم.
ولما ظهرت نَجابَةُ الجاحظ النَّادِرَةِ للعلماء والنَّاس وشَغَلَهُم ،قَرَّبه الُخلَفَاءُ والأُمراءُ إليهم وصادقوه فعمل في دار الخلافة لثلاثة أيَّام فقط ثم هرب من ملل الوظيفة ليتفرَّغ للتَّأليف والاطلاع .
أسلوبُ الجاحظ الأدبي
كان الجَاحِظُ كما يقولون جهازاً يُصَوِّرُ كلَّ شيء حوله و يدوِّنه بطريقته الخاصة التي لا تخلو من الهزل والتهكم والسُّخرية ،ففي كتاباتِهِ الـمُطَوَّلة يقف بالقارئ ليروي له طرفةً أو نادِرَةً تُظْهِرُ على وَجْهِ القارِئ ابتسامةً أَوْ ضحكةً عالية.
وكذا جميع مؤلفات الجاحظ تجمع بين حرارة الجِد وبرودة المزاح ،و ياحسرةَ من سـخِرَ الجاحظُ منه أو تندَّر عليه ! .
حتى إنَّه سَخِرَ من شُيُوخِهِ وَطُلَّابِه وجِيرانه ونفْسِهِ ،فيقول :»كنت ذاتَ يومٍ أَمَامَ بيتي فَـمَرَّتِ اِمْرأَتٌ حَسْناءُ ثم ابتسمت لي وَقالتْ: «لي إليك حاجة».
فقلت: ”وما حاجَتُكِ ؟ “، قالتْ:” أريدكَ أن تذهبَ معي “، قُلْتُ :” إِلَى أَيْنَ ؟ “، قَالَتْ : « اِتْبَعْني دُونَ سُؤالٍ «، فتبِعتُها إلى أن وصلنا إلى دكان صائغ، وهناك قالت المرأة للصائغِ :” مثل هذا ! “، ثمّ انصرفت.
عندئذٍ سأَلْتُ الصائغَ عَنْ مَعنى ما قالته المرأة، فقال لي :” لا مؤاخذة يا سيِّدي ! لقد أتتني المرأة بخاتم، وطلبت منّي أن أَنقش عليه صورةَ شَيطان، فقلتُ لها: ما رأيتُ شيطاناً قطّ في حياتي، فَأتت بك إلى هُنا» .
تراث الجاحظ
وكما عَرَفْتَ أَنَّ الجاحظ قد هرب من قُيود الوظيفة في دواوين الخلافة و تفرَّغ للتدريس و التَّأليف فقد خلَّف إرثاً للأمة العربية تتباهى به ، وقد قارَبَتْ مؤلفاته على (ثلاثمائة وستين) مؤلفًا في مختلف العلوم ولكن للأسف قد ضاع أغلبها مع مرور الزَّمن .
ومِنْ أَشْهَرِ تلك المؤلفاتِ التي لا تخلو مِنها مكتبةُ أَدِيبٍ أو لغوي أو حتى طالب العربية:
(كتابُ الـحَيَوان) كان أوَّلَ كتابٍ عربي عن علم الحيوان كتب فيه كلَّ ما يتعلق بالحيوانات والطيور من أنواعٍ و أمراضٍ وعلاجٍ وعاداتٍ وتقاليد .
(كتاب البيان والتبيين) و هو أنفع كتبِ الجاحظ حيثُ امتلأ بقضايا البلاغة والبيان، والخطابة، والشِّعر، وكذلك نماذج من الوصايا والرسائل،والكثيرُ من كلَامِ النُّسَّاكِ و القُصَّاصِ وأخبارهم ،وكذلك من أخبار النَّوْكَى والحمقى ونوادرهم.
(كتاب البخلاء) تكلَّم فيه الجاحظ عن البخلاء وعاداتهم وسَخِرَ منهم ،وذكر قَصَصًا ممتعة وأَخبارًا شيِّقة ، تضحك من قراءتها ولا تكادُ تَتْرك الكتابَ حتى تنتهيَ منه.
(كتابُ رسائل الجاحظ) و هو من أروع ما أنت قارئ في الأدبِ الرَّائق والأخلاق العالية ، ويتكلَّـمُ فيها عن قضايا ومسائل لطيفة ،مِنْـها:(مَنَاقِبُ التُّرْكِ، والمعَاشُ والمعَادُ، وَكِتْمَانُ السِّرِّ وَحِفظُ اللسَانِ، وَ فَـخْرُ السُّودَانِ على البِيضَانِ، وَ فِي الـجَدِّ و الـهَزَل ، وَفصْلٌ مَا بَيْنَ العَدَاوَةِ وَ الـحَسَدِ ، وَ ذَمُّ أخلاق الكُتَّابِ، والـحَنِينُ إلى الأَوْطان،وغيرها من القضايا النَّافعة) .
وهكذا يشعرُ القارئ بالتَّقدم العَقْلي و المعرفي عندما يقرأُ للجاحظِ مِرَاراً وتكرارا ،فقد استمتع العلماءُ من قَبْلِنا بالقراءة له وفضَّلوا مؤلفَاته على غيرها حتَّى بالغ أحدُهم بقوله :” رَضِيتُ في الجنة بكُتُبِ الجاحظ عِوَضًا عن نعيمها».
وقال ابنُ العميد: «كُتُبُ الجاحظِ تُعَلِّمُ العَقْلَ أولاً، والأدَبَ ثانيًا».
فقره وطلبه للعلم
مات أبو الجاحظ و هو في سنِّ مبكرة ، وتركه لأُمِّه التي دفعته إلى السوق يبيع السَّمك و الخبز ،فكان الجاحظ يعمل نهاراً و يبيت في حوانيت الكُتُبِ و الأوراق يقرأ فيها ليلاً .
مع هذا الفَقْرِ الشَّدِيدِ لم يترك الجاحظُ طلب العلم ولكنَّه جالس العلماء في أروقة المساجد ، فقرأ القُرْآن ،و دَرَسَ النَّحْوَ على شيخه الأخْفش تلميذِ سيبويهِ ،وطاف على العديد من الشيوخِ وكُتَّـابِ عصره الذهبي الذي جمع نجوم العلماء كالخليل بن أحمد و سيبويه و ابن المقفع والأصمعي ،وأئمة الفقه كمالك والشَّافعي وأحمد وغيرهم الكثير.
وكان فيما رُوي عنه أنَّه لما انصرف إلى طلب العلوم و التَّأليف حتى ضاقت به أمُّه وكانت تُقدِّمُ له الأطباقَ فيها الأوراقُ و الكَراريسُ بدلاً من الطَّعَامِ سُـخْرِيةً مما يقوم به وانصرافه عن الدنيا إلى العلم .
انتقَالُه إلى بغداد
لم يكن الجاحظُ رجلاً عادياً في سعة اطلاعه وقراءته فقد أَلَمَّ بالثقافة العربية والفَارِسِيَّة والـهندية واليونانية وذلك لِكَثْرَةِ اطِّلاعه على المُترجمات من كُتُبِ تلك الأمم.
ولما ظهرت نَجابَةُ الجاحظ النَّادِرَةِ للعلماء والنَّاس وشَغَلَهُم ،قَرَّبه الُخلَفَاءُ والأُمراءُ إليهم وصادقوه فعمل في دار الخلافة لثلاثة أيَّام فقط ثم هرب من ملل الوظيفة ليتفرَّغ للتَّأليف والاطلاع .
أسلوبُ الجاحظ الأدبي
كان الجَاحِظُ كما يقولون جهازاً يُصَوِّرُ كلَّ شيء حوله و يدوِّنه بطريقته الخاصة التي لا تخلو من الهزل والتهكم والسُّخرية ،ففي كتاباتِهِ الـمُطَوَّلة يقف بالقارئ ليروي له طرفةً أو نادِرَةً تُظْهِرُ على وَجْهِ القارِئ ابتسامةً أَوْ ضحكةً عالية.
وكذا جميع مؤلفات الجاحظ تجمع بين حرارة الجِد وبرودة المزاح ،و ياحسرةَ من سـخِرَ الجاحظُ منه أو تندَّر عليه ! .
حتى إنَّه سَخِرَ من شُيُوخِهِ وَطُلَّابِه وجِيرانه ونفْسِهِ ،فيقول :»كنت ذاتَ يومٍ أَمَامَ بيتي فَـمَرَّتِ اِمْرأَتٌ حَسْناءُ ثم ابتسمت لي وَقالتْ: «لي إليك حاجة».
فقلت: ”وما حاجَتُكِ ؟ “، قالتْ:” أريدكَ أن تذهبَ معي “، قُلْتُ :” إِلَى أَيْنَ ؟ “، قَالَتْ : « اِتْبَعْني دُونَ سُؤالٍ «، فتبِعتُها إلى أن وصلنا إلى دكان صائغ، وهناك قالت المرأة للصائغِ :” مثل هذا ! “، ثمّ انصرفت.
عندئذٍ سأَلْتُ الصائغَ عَنْ مَعنى ما قالته المرأة، فقال لي :” لا مؤاخذة يا سيِّدي ! لقد أتتني المرأة بخاتم، وطلبت منّي أن أَنقش عليه صورةَ شَيطان، فقلتُ لها: ما رأيتُ شيطاناً قطّ في حياتي، فَأتت بك إلى هُنا» .
تراث الجاحظ
وكما عَرَفْتَ أَنَّ الجاحظ قد هرب من قُيود الوظيفة في دواوين الخلافة و تفرَّغ للتدريس و التَّأليف فقد خلَّف إرثاً للأمة العربية تتباهى به ، وقد قارَبَتْ مؤلفاته على (ثلاثمائة وستين) مؤلفًا في مختلف العلوم ولكن للأسف قد ضاع أغلبها مع مرور الزَّمن .
ومِنْ أَشْهَرِ تلك المؤلفاتِ التي لا تخلو مِنها مكتبةُ أَدِيبٍ أو لغوي أو حتى طالب العربية:
(كتابُ الـحَيَوان) كان أوَّلَ كتابٍ عربي عن علم الحيوان كتب فيه كلَّ ما يتعلق بالحيوانات والطيور من أنواعٍ و أمراضٍ وعلاجٍ وعاداتٍ وتقاليد .
(كتاب البيان والتبيين) و هو أنفع كتبِ الجاحظ حيثُ امتلأ بقضايا البلاغة والبيان، والخطابة، والشِّعر، وكذلك نماذج من الوصايا والرسائل،والكثيرُ من كلَامِ النُّسَّاكِ و القُصَّاصِ وأخبارهم ،وكذلك من أخبار النَّوْكَى والحمقى ونوادرهم.
(كتاب البخلاء) تكلَّم فيه الجاحظ عن البخلاء وعاداتهم وسَخِرَ منهم ،وذكر قَصَصًا ممتعة وأَخبارًا شيِّقة ، تضحك من قراءتها ولا تكادُ تَتْرك الكتابَ حتى تنتهيَ منه.
(كتابُ رسائل الجاحظ) و هو من أروع ما أنت قارئ في الأدبِ الرَّائق والأخلاق العالية ، ويتكلَّـمُ فيها عن قضايا ومسائل لطيفة ،مِنْـها:(مَنَاقِبُ التُّرْكِ، والمعَاشُ والمعَادُ، وَكِتْمَانُ السِّرِّ وَحِفظُ اللسَانِ، وَ فَـخْرُ السُّودَانِ على البِيضَانِ، وَ فِي الـجَدِّ و الـهَزَل ، وَفصْلٌ مَا بَيْنَ العَدَاوَةِ وَ الـحَسَدِ ، وَ ذَمُّ أخلاق الكُتَّابِ، والـحَنِينُ إلى الأَوْطان،وغيرها من القضايا النَّافعة) .
وهكذا يشعرُ القارئ بالتَّقدم العَقْلي و المعرفي عندما يقرأُ للجاحظِ مِرَاراً وتكرارا ،فقد استمتع العلماءُ من قَبْلِنا بالقراءة له وفضَّلوا مؤلفَاته على غيرها حتَّى بالغ أحدُهم بقوله :” رَضِيتُ في الجنة بكُتُبِ الجاحظ عِوَضًا عن نعيمها».
وقال ابنُ العميد: «كُتُبُ الجاحظِ تُعَلِّمُ العَقْلَ أولاً، والأدَبَ ثانيًا».
وفاة الجاحظ.
و إن كان سيبويهُ وابنُ المقفَّعِ قد مَاتا في مَطْلعِ الشَّباب فإنَّ الجَاحِظَ قد رَحَلَ عن الدنيا بعد أن عَاشَ قُرابةَ التِّسعينَ عاماً .
فعاش في عصر الدولة العباسية و عاصر اثنتي عَشَرة خليفة منهم ،ثم أصيبَ بمرض الفالجِ ( شَلَل نصفي ) وتكاثَرَتْ عليه الأمراضُ.
ومِنَ العَجِيبِ جِدّاً أنَّه لم يـَمُتْ بـِمَرَضٍ من هذه الأَمْرَاضِ ولكنَّه لاقى شَيْئا مما لاقاه سيبويه وابنُ المقَفَّع ،حيث سَقَطَتْ عليه كتبه وهو جالس في رواق بيته فصارت قبراً له ، فحزن الأمراء والأُدَباءُ على فقْدِه وسَـمُّوه شهيدَ الكُتب.
المصدر : كتاب اللسان العربي
و إن كان سيبويهُ وابنُ المقفَّعِ قد مَاتا في مَطْلعِ الشَّباب فإنَّ الجَاحِظَ قد رَحَلَ عن الدنيا بعد أن عَاشَ قُرابةَ التِّسعينَ عاماً .
فعاش في عصر الدولة العباسية و عاصر اثنتي عَشَرة خليفة منهم ،ثم أصيبَ بمرض الفالجِ ( شَلَل نصفي ) وتكاثَرَتْ عليه الأمراضُ.
ومِنَ العَجِيبِ جِدّاً أنَّه لم يـَمُتْ بـِمَرَضٍ من هذه الأَمْرَاضِ ولكنَّه لاقى شَيْئا مما لاقاه سيبويه وابنُ المقَفَّع ،حيث سَقَطَتْ عليه كتبه وهو جالس في رواق بيته فصارت قبراً له ، فحزن الأمراء والأُدَباءُ على فقْدِه وسَـمُّوه شهيدَ الكُتب.
المصدر : كتاب اللسان العربي
إرسال تعليق