في الحقيقة العلاقة بين الفكر و العقيدة علاقة حرجة جدا
لأنَّها تحتاج الى تدقيق مفاهيمي عال، وقبل أن نصوغ العلاقة في عناصر دراسية يجب
أن نعرف أن حدود الفكر أوسع بكثير من دوائر الاعتقاد ، فالفكرة عبارة عن عملية
تلقيح مقدمات -كما سبق في التعريفات –
للخروج بنتائج معينة ، وهذه العملية تتم بشكل واسع في كل المعارف و العلوم ، بينما لا يخضع الاعتقاد لمثل هذه المقدمات و
النتائج بقدر ما هو معتمد على الثوابت النَّقلية في تقرير الغيبيات و غيرها
من أصول الاعتقاد.
فإذا كان الأمر كذلك فإن ثمة سؤال
يطرح نفسه وهو" كيف يعمل الفكر في
العقيدة وما هو دور وحدود المفكَّر ؟
ومن خلال الأسطر القلية القادمة تضح
العلاقة بين الفكر و العقيدة في مرحلتين
مهمتين جدا تختلف كل واحدة عن الأخرى.
المرحلة الأولى : مرحلة ترسيخ الاعتقاد وتقليص الفكر
وهي مرحلة التكوين و الترسيخ العقائدي
للمسلم و التي يحتاج فيها إلى تثبيت دعائم
العقيدة في القلب عن طريق تلقي الوحي ،ولاشك
أن عملية التلقي في هذه المرحلة هي نوع من أنواع الفكر أيضا ولكنه ذو طبيعة محدودة عنه في المرحلة الثانية ،
ولعل هذا هو معنى قو ل الصَّحابي الجليل جندب بن عبد الله
عندما قال " كنا غلمانًا حزاورة مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا،
وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان([1])
فالواجب الحقيقي على المؤمن في هذه المرحلة التركيز على أهمية الإيمان بالله وملائكته،
وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، لأن هذه هي أساسيات العقيدة
الصحيحة، وهي أركان الإيمان الحق، والذي تعلَّمه الصحابة - رضي الله عنه - وهم صغار،
قبل أن يتعلموا ويقرؤوا القرآن، فلما تلوا كتاب الله وتدارسوه فيما بينهم، ازداد إيمانهم، وقويت عقيدتهم([2])
المرحلة الثانية: التَوسع في إعمال الفكر.
ثم تأتي المرحلة الثانية - بعد تناول
النص العقائدي و ترسيخ الإيمان- بحدود
فكريَّة أوسع ينتج عنها قوَّة الإيمان و استخراج أسرار مكنونات الاعتقاد السَّليم .
وفيها يخطو المسلم خطوة أعمق في
التفكير ولا يقف على أبواب الظواهر دون نظر و تدبُّر ، وهو مأمور- شرعا – بإعمال
عقله و خاطره فيما يزيده يقينا بربه ، ولعل هذا أيضا هو معنى الجزء الثاني من
الحديث السابق - يعني قول
الصَّحابي " ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا، وإنكم اليوم تعلمون القرآن
قبل الإيمان([3])
و كتاب الله من أوَّله الى آخره يحث
على إعمال الفكر ويجعله عبادة من أجلِّ العبادات لينقاد الجاحد إلى الإيمان و
المؤمن يزداد إيمانا وتفكيرا([4])
وتتنوع أساليب الطَّرح القرآني لدعوة
الخلق إلى مزيد من التَّفكر و التدبر ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1-
الحض
الصَّريح على التفكُّر في آيات الله تعالى لتحقيق نوع أعمق من الاطمئنان بالإيمان.
نجد هذا واضحا في جملة كبيرة من الآيات منها
قوله تعالى " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ سورة
آل عمران: 190، 191
وقوله تعالى :﴿
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ سورة:
الحج: 46
و قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ محمد: 24
2-
ضرب
الأمثال التي تقرر في النهاية الاعتقاد السَّليم الخالي من الهوى و الزيغ.
قال
تعالى:﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
الحشر :21
وقال تعالى: ﴿
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ
﴾. العنكبوت -43
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ
فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ الزمر- 27.
و قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه
الترمذي عن علي رضي الله عنه: (إنَّ الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية، ومثلاً
مضروبًا)([5])
ومن هذه الأمثال في القرآن :
قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ
فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ البقرة - الآية 17
وقوله تَعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ ﴾ يونس - الآية 24.
وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ الحجرات - الآية12
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ
يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا
لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ الحج - الآية 73.
وقوله تعالى : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا
هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾
النحل - الآية 75.
وقوله تعالى : ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَـأْ نَخْسِـفْ
بِهِـمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾
سورة سبأ : آية (9)
وهكذا ترى روعة التشبيه و الاستعارة
وبلاغة الحوار الفكري في إحقاق الحق وإبطال الباطل .
وكما كثر المثل في كتاب الله
تعالى فقد كثر أيضا في حديث رسول الله
عليه الصلاة و السلام يقول الشيخ محمد
الخضر حسين رحمه الله " جرى على طريقة القرآن في ضرب الأمثال أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى روي عن عبدالله بن عمر أنه قال: "حفظت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ألف مثل"، وهذا الأثر قد نبَّه نقَّاد الحديث على عدم صِحَّته،
لكن روايته تشعر بأن الأمثال الواردة في السنة ليست بقليل، وقد عقد للأمثال النبوية
أبو عيسى الترمذي في جامعه بابًا أورد فيه أربعين حديثًا، وقال القاضي أبو بكر بن العربي:
"لم أرَ من أهل الحديث من صنَّف فأفرد للأمثال بابًا غير أبي عيسى، ولله درُّه،
لقد فتح بابًا، وبنَى قصرًا أو دارًا، ولكنَّه اختطَّ خطًّا صغيرًا، فنحن نقنع به ونشكره
عليه"([6])
3-
طرح
المناقشات الفكرية الهادئة بين الحق و الباطل على مسامع المؤمن وغيره ليتعلَّم كيف
يدير فكره وعقله فيزداد إيمانا إن كان مؤمنا أو يؤمن إن كان كافرا.
ومن هذه المناقشات قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ
فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) البقرة (258)
وقوله تعالى: (
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ
يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ
عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
) البقرة (259)
[1] المعجم
الكبير للطبراني 1378، السنن الكبرى للبيهقي 5498،ابن ماجه 61، وصححه الألباني –رحمه
الله - في صحيح ابن ماجه
[2] شرح
حديث عبد الله بن جندب ضمن سلسلة شروح الحديث أعدها الفاضل د. إبراهيم بن فهد الودعان.
[3] سبق
تخريجه
[4] منهج
القرآن الكريم في إقامة الحجة مجاهد محمود ص72
[5] أخرجه
الترمذي في سننه، والسيوطي في الجامع الصغير؛ من حديث علي – رضي الله عنه - رفعه، وضعفه
الألباني- رحمه الله -
[6] مجلة
"الهداية الإسلامية" الجزء الثالث من المجلد السادس عشر، رمضان، 1362 هـ
إرسال تعليق